في يومٍ من أيام شتاء مدينة شيكاغو، وبعد تناول الغداء، ذهب الطفل ليونارد ليلعب مع والده كعادته، ولكن هذه المرة كان ينتظره شيء مختلف عن اللعب المعتاد. أخذ الأب ليونارد جانبًا وقال له: لقد أصبحت كبيرًا بما يكفي لأخبرك القصة التي لولاها لما كنا هنا الآن، ولما كنت قد وُلدت من الأساس!
كان والد ليونارد مسجونًا في أحد معسكرات النازية التي أقامها هتلر في بولندا، وفي أحد الأيام، كان والد ليونارد على وشك الموت من الجوع، فاضطر لسرقة رغيف خبز من مخبز المعسكر. لكن لسوء حظه، اكتشف المسؤول عن المخبز نقصًا في الخبز، فجمع الجنود كل من كان حول المخبز في تلك اللحظة الغاشمة، وقالوا: «إذا لم يظهر السارق، سنقتل الجميع».
ظن والد ليونارد أن الجنود لن يقتلوهم بسبب رغيف خبز، فلم يتحدث. لكن على عكس المتوقع، قام الجندي بملء بندقيته وأطلق النار على أول شخص. ومع ذلك، لم يتكلم أحد. عندما كان الجندي على وشك إطلاق النار مرة أخرى، رفع والد ليونارد يده وقال: «أنا من سرق الخبز!».
كان الجندي على وشك قتله، لولا أن المسؤول عن المخبز قرر أن يضم والد ليونارد للعمل معه في المخبز لمساعدته، بسبب نقص في العمال كان يعانيه. وكان ذلك هو السبب الوحيد الذي أبقى والد ليونارد على قيد الحياة. مرت السنوات على الأب، وسقطت ألمانيا النازية التي قتلت زوجته وطفليه الاثنين، خرج من السجن وبدأ حياة جديدة، تزوج وأنجب ليونارد الذي سيكبر ليصبح العالم الكبير ليونارد ملودينوف Leonard Mlodinow، الشريك في كتابة أهم كتاب فيزياء في العصر الحديث «تاريخ موجز للزمن» مع العالم الكبير ستيفن هوكينج، بل وأصبح له إسهامات عديدة في الفيزياء والرياضيات.
لكن رغم مرور السنين وكبر ليونارد، لم يستطع أن يخرج القصة من ذهنه. كيف كان بإمكان موقف عشوائي أن ينهي حياة والده وعائلته بأكملها، وكيف كانت حياته نفسها قريبة جدًا من ألا تحدث بهذه البساطة؟
ومع مرور الأعوام، بدأت تزداد هذه الأفكار في رأسه، ومع دراسته لعلم الاحتمالات في الرياضيات، اكتشف أن أفكاره ليست مجرد افتراضات، بل نظريات علمية ومعادلات وأرقام أفنى العلماء حياتهم في إثباتها. بل هو نفسه عندما وصل إلى سن الخمسين، قضى الكثير من وقته في جمع هذه الأفكار في كتاب سماه «Dunkirk Walk».
شئت أم أبيت، تتحكم الصدفة في جزء كبير من حياتنا، والصدفة التي أعنيها هنا ليست أشياء اعتباطية أو عبثية، بل مواقف تحدث وأحداث تقع دون مقدمات أو تفسير، وتتحكم بشكل كبير في تغيير مسار حياتنا للأبد. قد يعلمنا معتقدنا الديني أن كل شيء يحدث لسبب، لكن لا يخبرنا ما هو السبب. ربما يجعلنا حسن الظن والإيمان نفترض أن السبب خير، لكن السبب يظل مجهولًا والحدث عشوائيأ بالنسبة لنا. ومع ذلك، لا يغير هذا من حقيقة أن الحياة مليئة بعدد لا نهائي من الاحتمالات التي يمكن أن تغير حياتك في لحظة، سواء كان ذلك العمل الذي ستحصل عليه دون تخطيط، أو حب حياتك الذي ستلتقي به صدفة، أو الحادثة التي ستقع لك أو لأحد قريب منك دون توقع.
كل هذا يطرح سؤالًا هامًا: كيف يمكننا التعامل مع كل هذا القدر من العشوائية القادرة على قلب حياتنا في ثانية؟
في كتابه «Dunkirk Walk»، يحكي لنا ليونارد عن الشخص المحظوظ الذي ربح اليانصيب بعد أن اشترى الورقة رقم 27، والتي جعلته يفوز بمليون دولار غيروا حياته للأبد. صحيح أن الموقف عشوائي، لكن بالتأكيد اختياره للرقم الفائز لم يكن عشوائيًا، كان هناك سبب، حكمة، نظرية علمية، أو حتى خطة محكمة، لا يمكن أن يكون مجرد صدفة. هذا ما أكده الرجل المحظوظ الذي قال إن اختياره لم يكن صدفة ولا عشوائيًا، بل كان رسالة من السماء، من الكون، من الله، جعله يحلم بالرقم 7 لمدة 3 ليال متتالية.
أترى؟ لا يوجد شيء اسمه صدفة، كل شيء له تفسير ولا يمكن أن تتحكم فينا العشوائية بهذا الشكل. لكن انتظر لحظة، الرجل قال إنه حلم بالرقم 7 لمدة 3 ليال، وهذا ما جعله يختار الرقم 27؟ لكن (3 * 7 = 21) وليس 27… هل كان هذا الرجل يخدع نفسه؟ أو بمعنى أدق، هل كان عقله يخدعه ليقنعه أن هناك سببًا لاختياره ولم يكن مجرد صدفة؟
لكن لماذا؟ لماذا قد تكون عقولنا مهووسة إلى هذه الدرجة بإنكار الصدفة واختراع الأنماط من العدم؟ لماذا ترفض عقولنا قبول العشوائية كما هي وتكتفي بذلك؟
«مشكلتك أنك تظن أن هناك قواعد لهذا العالم، لكن في الواقع لا يوجد. لقد اعتدنا العيش مثل الغوريلات، ما نملكه هو ما نستطيع الحصول عليه والقتال لامتلاكه».
- لورن مالفو، مسلسل Fargo.
في كتابه «The Believing Brain» يحكي العالم مايكل شيرمر كيفية تعامل الإنسان البدائي مع العشوائية. يقول إذا عدنا بالزمن 3 ملايين سنة ورأينا الإنسان البدائي وهو يمشي في غابات السافانا ليصطاد طعامًا لزوجته وأطفاله، وفجأة سمع صوتًا وسط الحشائش خلفه، سيتوقف ويسأل نفسه: هل هذا صوت عشوائي بسبب الرياح أم صوت حيوان مفترس قادم ليأكله؟
إجابته على هذا السؤال قد تكون في بعض الأحيان هي ما سيحدد إذا كان سيعيش أم يموت! لهذا السبب، نشأ الإنسان البدائي مهووسًا بمحاولة إيجاد التفسيرات المنطقية، بل واختراعها إذا لم توجد، واكتشاف الأنماط وخلقها ولو على حساب الحقائق الموجودة أمامه. وهذا ما جعل قدرة عقولنا على التعامل مع العشوائية شبه معدمة، لأن العشوائية تقول لعقلنا ببساطة:
اصمت، توقف، اخفض زر التشغيل. تخبره أنه أحيانًا لا يوجد سبب للنتيجة، لا يوجد نمط، لا يوجد تفسير منطقي، لا توجد طريقة يمكنك من خلالها توقع ما سيحدث، بالرغم من كل الاحتياطات التي تتخذها من أجل الشعور بوهم السيطرة، فأنت لا تسيطر على شيء!
في كتابه «Outliers»، يحكي لنا مايكل جلادويل عن لغز غريب اكتشفه أثناء دراسته لنسبة نجاح لاعبي الهوكي في كندا. قام مايكل بجرد لأكثر لاعبي هوكي الجليد نجاحًا في العشر سنوات الماضية واكتشف اكتشافًا غريبًا: 70% من اللاعبين في القائمة مولودون في شهر يناير!
مايكل جلادويل Malcolm Gladwell هو صحفي يعمل منذ أكثر من 40 عامًا، ألف أكثر من 10 كتب ونشر مئات المقالات، درس النجاح والناجحين لسنوات طويلة، لكنه لم يلحظ أبدًا أي علاقة بين شهر ميلاد الشخص واحتمالية نجاحه في الحياة. كان جلادويل على وشك الجنون، استمر في السؤال والقراءة والبحث، استعان بخبراء لعبة الهوكي ولاعبين سابقين ومحللين. ما علاقة شهر ميلاد الشخص بإحتمالية نجاحه؟ هل الأبراج حقيقة؟ هل يؤثر نجم الشخص لحظة ميلاده على بقية حياته؟ هل كونك مولودًا في شهر يناير يمنحك أفضلية على غيرك في النجاح في لعبة الهوكي؟ ماذا عن باقي الألعاب؟ ماذا عن باقي الوظائف المهنية؟
ما اكتشفه جلادويل بعد ذلك كان عكس توقعاته تمامًا..
لأن لعبة الهوكي تحتاج إلى قوة بدنية عالية، فاللاعبون المتميزون في كل سن يحصلون على تدريب خاص يزيد من مستواهم وقدراتهم. وبما أن مواليد النصف الأول من العام عادةً ما يكون نموهم البدني أكبر من مواليد النصف الثاني (بالطبع لأنهم أكبر سنًا) فهم الذين يحصلون على الاهتمام والرعاية الأكبر والتدريبات الخاصة التي تؤهلهم لاحقًا للنجاح في اللعبة أكثر من باقي اللاعبين. وهذا جعل جلادويل يطلق على هذه النظرية اسم الطفل الكبير Big Baby. أي أن شيئًا عشوائيًا مثل كون الشخص مولودًا في بداية السنة أو نهايتها يمكن أن يؤثر بشكل كبير على احتمالية نجاحه من عدمه.
جلادويل يقول إننا نفكر دائمًا في أن النجاح يعتمد فقط على موهبة الشخص وعلى عدد الساعات التي قضاها في العمل، لكن هذا مثال حي على كيفية تأثير شيء عشوائي مثل يوم ميلادك على مستقبل حياتك دون أن يكون لك أي يد في هذا الأمر. أي أنَّ شيئًا عشوائيًا مثل كون الشخص مولودًا في أول السنة أو آخرها يمكن أن يؤثر بشكل كبير على احتمالية نجاحه أو فشله. ستقول لي: «إذًا ما هذا الكلام عن أن النجاح يعتمد على التعب والجهد فقط؟ هل يعني انه لا يوجد شيء يسمى إنسان عصامي صنع نفسه بنفسه Self-Made؟»
للإجابة على نفس السؤال، يذهب جلادويل إلى أشهر من أطلق على نفسه لقب «عصامي صنع نفسه بنفسه Self-Made» في العصر الحديث، وهو السياسي الأمريكي جيب بوش Jeb Bush، عمدة فلوريدا السابق، ويقول إن بوش كان لديه في عائلته اثنين من رؤساء أمريكا السابقين، وآخر كان مالكًا لأحد أكبر البنوك في وول ستريت، وآخر عضو في مجلس الشيوخ. وكأنَّ تاريخ عائلته بأكمله يؤهله ليصبح سياسيًا أمريكيًا!
حتى الأسماء اللامعة في عصرنا الحالي مثل بيل جيتس، مارك زوكربيرج، إيلون ماسك، كلهم جاءوا من عائلات غنية تحمل في طياتها المليارات، مما مهد لهم سبل النجاح لاحقًا لمجرد أنهم ولدوا في عائلات غنية. لكن هل يعني ذلك أنَّ النجاح والفشل أسبابهم عشوائية وأن الحظ يتحكم في كل شيء؟ وبالتبعية، لأني لم أولد في عائلة غنية ولم يكن والدي مليارديرًا، هل يعني أنني سأجلس مكتوف الأيدي وأقول إن العشوائية تتحكم في كل شيء!
بالطبع لا، الغرض من كل هذا ليس التقليل من أهمية العمل والجهد، فبدونهما سيفشل حتى أبناء قارون نفسه. ولكن الغرض هو أن يعطي لمحة عن العوامل الخفية للنجاح والفشل، عن الفرق بين الناجح والبطل الخارق، وعن الفرق بين الأشياء التي نتحكم بها وتلك التي تتحكم فينا. وبرغم كل هذه العوامل، يقول الفيلسوف اليوناني سينيكا: «الحظ هو ما يحدث عندما تتقابل الصدفة مع الاستعداد الجيد». بما معناه أن الحظ والفرص يزدادان كلما ازداد اجتهاد الفرد.
ومن مقولة سينيكا، يمكنني وضع تعريفي الخاص للحظ وأقول:
«الحظ هو أن يكون المرء في المكان الصحيح في الوقت الصحيح».
وبرغم أنَّ بعض عوامل النجاح ليس للإنسان سيطرة عليها، إلا أنه بدراسة علم الاحتمالات يمكننا القول إنه أحيانًا يمكن للإنسان زيادة نسب واحتماليات نجاحه بأن يقوم ببعض الأشياء البسيطة.
تحكي الأسطورة عن عالم رياضيات عظيم درس علم الاحتمالات وفهمه أكثر من أي شخص في عصره، فأصبح لديه القدرة على توقع مصير أسهم البورصة والفريق الفائز في مباريات الكرة والأشخاص الذين سيفوزون بميداليات في الأولمبياد. ولم يقتصر الأمر على التوقعات فقط، بل أصبح يعطي نصائح للناس لزيادة فرص فوزهم واحتمالية نجاحهم في المراهنات على الفائزين. وهذا ما جعل معاصريه يشعرون بالسخط، فقد أرادوا بشدة إثبات عجزه في أي شيء، ولذلك لجأ أحدهم إلى خدعة ظن أنها ستثبت عجز عالم الرياضيات العظيم.
استعان أحد زملائه الحاقدين بأشهر امرأة عزباء في المدينة، والتي كانت معروفة بحظها السيئ في العلاقات، وأرسلها للعالم العظيم لتقول له أمام الناس: «أليس أنت من أصبح يفهم كل شيء في الاحتمالات ويعطي الناس نصائح لزيادة حظوظهم؟ إذا كنت عالمًا عظيمًا حقًا، فساعدني على الزواج!».
صمت الجميع ولم يفهموا العلاقة بين رغبة امرأة في الزواج وبين علم الاحتمالات؟ وكيف يمكن لعالم رياضيات أن يساعدها في شيء مثل هذا؟
لكن العالم العظيم كان يعلم من أرسلها والغرض من ذلك. لذلك قال لها بكل ثقة وتبجح: «لن أساعدك فقط على الزواج، بل سأساعدك على الزواج من فتى أحلامك». وسألها أمام الجميع: «ما هي أهم ثلاث صفات تتمنين أن تكون في زوجك المستقبلي؟» فكرت المرأة قليلًا وقالت بلهفة: «أن يكون متدينًا، رياضيًا، ويحب القراءة مثلي».
كتب عالم الرياضيات العظيم ثلاثة أسطر في ورقة وأعطاها للمرأة وقال لها: "أراكِ بعد شهر."، وبعد شهرٍ بالفعل، عادت المرأة وهي تمسك بيد زوجها الجديد المتدين الرياضي الذي يحب القراءة!
لم يصدق الناس ما حدث، منهم من قال أن العالم العظيم ساحر، ومنهم من قال إنه عبقري، وآخرون قالوا إنه مخادع وأن هذه المرأة متواطئة معه وتقوم بخداع الناس. بدأت الشائعات تتزايد والاتهامات تزداد، لكن لم يستطع أحد أن يفهم كيف فعلها العالم العظيم. الشخص الوحيد الذي حاول الوصول لتفسير كان زميله الحاقد، هو أكثر شخص يعلم أنَّ العالم العظيم ليس مخادعًا ولا يقوم بمسرحية بمساعدة المرأة، بالتأكيد يوجد حل للغز!
لهذا ذهب الزميل الحاقد إلى بيت المرأة الجديد، وجد زوجها مفتول العضلات قد عاد للتو من الكنيسة وجالسًا يمارس القراءة بنَهم شديد. جنّ جنّونه أكثر، رفع مسدسه على المرأة وقال لها: «أريني الورقة التي أعطاها لك عالم الرياضيات التي ساعدتك على الزواج من فتى أحلامك في شهر». ارتعبت المرأة وأحضرت الورقة بسرعة.
أخذ الزميل الحاقد الورقة، ولم يصدق ما رآه. أعاد الورقة لمكانها وضحك، وحينها فقط فهم لماذا كان عالم الرياضيات العظيم عبقريًا حقًا.
الورقة التي تحتوي على ثلاثة أسطر كان مكتوبًا فيها ثلاث معادلات فقط:
احتمالية مقابلة شخص متدين في الكنيسة > احتمالية مقابلة شخص متدين في مقهى المدينة.
احتمالية مقابلة شخص رياضي في النادي الرياضي > احتمالية مقابلة شخص رياضي في الملهى الليلي.
احتمالية مقابلة شخص يحب القراءة في المكتبة العامة > احتمالية مقابلة شخص يحب القراءة في مكان العمل.
كل ما فعله عالم الرياضيات هو أنه قال للمرأة: «طالما أنك ترغبين في مقابلة شخص متدين ورياضي ويحب القراءة، إذًا عليكِ أن تقضي أطول وقت ممكن في الأماكن التي تكون احتمالية مقابلة شخص بتلك الصفات فيها عالية، وهي الكنيسة والنادي الرياضي والمكتبة».
وبهذا يكون قد طبق فكرة الحظ بمفهوم: أن يكون المرء في المكان الصحيح في الوقت الصحيح. وبتواجدها في المكان الصحيح لفترات أطول، زادت حظوظها (احتمالية) مقابلة فتى أحلامها. أو كما قال المنتج الأمريكي صامويل جولدوين: «كلما عملت بجد أكثر، ازداد حظي!».
كادت أسطورة عالم الرياضيات العظيم أن تكون كافية لولا سبب بسيط للغاية، وهو أن المرأة كان من الممكن أن تفعل كل ما قاله لها لسنوات، وبالرغم من ذلك لا تقابل فتى أحلامها!
في مسلسل «بريكنج باد Breaking Bad»، وبعد أن حولته إصابته بالسرطان من مدرس كيمياء شريف إلى أكبر طباخ مخدرات في أمريكا، وأثناء فحصه الشهري الخاص بالعلاج الكيماوي، قابل والتر وايت شابًا أصغر منه بنحو 20 عامًا تم تشخيصه حديثًا بالسرطان. يحكي الشاب لوالتر أنَّ أكبر درس تعلمه من مرضه هو ألا يحاول السيطرة على كل شيء، وأنه كان بالأمس رجل أعمال شاب يفتتح مشروعًا جديدًا، واليوم هو مريض سرطان يخضع لأول جلسة كيماوية له، والله وحده يعلم أين سيكون غدًا، أو كما يقول المثل الشهير: الإنسان يخطط والإله يضحك، لأنه يعلم أن التخطيط للمستقبل مثل القبض على الريح.
وهنا يخرج والتر وايت عن صمته لأول مرة في المشهد ويقول: «هراء!»
يغضب والتر ويتجاهل أن مرضه المفاجئ هو ما غير حياته وشخصيته 180 درجة، ويقول له: «كل ما قلته هراء! لا تتخلى عن السيطرة ابدًا، لقد تم تشخيصي بالسرطان لأكثر من سنة ومع ذلك أنا المتحكم الأول في حياتي!».
وهذا، سيداتي سادتي، هو وهم السيطرة…
الإنسان في الماضي، قبل أن يختار العيش في جماعات، كان يعيش وحده مع زوجته وأطفاله وسط أخطار العالم. يمكن في أي لحظة أن يهاجمه حيوان مفترس، يسرق أحد طعامه، يخطف زوجته، أو يقتل أطفاله، كل شيء ممكن وكل شيء متاح. لهذا بدأ يعيش في جماعات ويكوّن قبائل وعائلات ودولًا وقوانينًا وحلفاء واتفاقيات، كل هذا ليشعر بالأمان ويوّهم نفسه بالسيطرة على ما يحدث له. وبرغم كل ذلك، ما زالت حوادث القتل والسرقة تحدث، ما زالت الحروب تحدث، ما زال من الممكن في أي لحظة أن تعلن دولة مجرمة العدوان على دولة ضعيفة وتذبح أهلها وشيوخها وأطفالها دون وجه حق، مثلما يحدث في فلسطين الآن، ضاربين عرض الحائط بكل الاتفاقيات والقوانين والمبادئ التي حاولت الإنسانية التوافق عليها لقرون. حتى على المستوى المجتمعي والفردي، وهم السيطرة في عصرنا الحالي يمتد إلى المبالغة في قدرات الفرد وتحميله أكثر من طاقته وإيهامه بأنه يستطيع فعل أي شيء وكل شيء، وأي فشل في الوصول إلى مراده فهو خطأه وحده دون أي مراعاة للعوامل الخفية للنجاح.
«لقد تربينا أمام التلفاز لنصدق أننا يومًا ما سنصبح مليونيرات، مشاهير ناجحين، نجوم سينما. لكننا لن نصبح كذلك، وها نحن قد بدأنا ندرك ذلك ببطء، ولذلك نحن غاضبون حد الانفجار».
- تايلر دردن، فيلم Fight Club.
الغرض من الكلام السابق هو التذكير بأن الكثير من الحياة، بل معظم الحياة، أشياء لا نملك تأثيرًا عليها تقع تحت عوامل أكثر من أن نحصرها في مقال واحد، عوامل أكثر من أن نسيطر عليها أو نخضعها لإرادتنا التي لن تنجح إلا إذا كنا خارقين. وهذه دعوة للتسليم والتوقف عن محاولات السيطرة على كل شيء ومحاولات الفرد حمل العالم على كتفيه.
ولكن في نفس الوقت ليست دعوة للتواكل أو الكسل، بالعكس، بلى العشوائية/الصدفة/الحظ تتحكم في أجزاء كبيرة من حياتنا، ولكن كما قلنا في أسطورة عالم الرياضيات العظيم، أحيانًا يكون في مقدورنا أن نزيد من فرص واحتمالات وجودنا في المكان المناسب في الوقت المناسب لعل ما نتمناه يكون.
وإذا لم يكن، علينا أن نتقبل محدودية كوننا بشرًا ولسنا آلهة، وأن الإله وحده هو القادر على السيطرة على كل شيء، أما نحن فمهما فعلنا مجرد بشر، يمكننا أن نفعل كما فعلت السيدة العزباء، نذهب إلى النادي الرياضي والكنيسة والمكتبة، وفي النهاية لا نقابل الزوج الرياضي المتدين الذي يحب القراءة. رغم أننا فعلنا كل شيء صحيح وأدينا الواجب فيما يمكننا السيطرة عليه على أفضل وجه، ولكن علينا أن نتقبل أنها ليست غلطتنا، ليست مسؤوليتنا ولا عيبًا فينا، وأن دورنا ينتهي عند عوامل أخرى لا يمكننا التحكم بها مهما فعلنا، وهنا لا يجب علينا سوى القبول والتسليم والتخلي عن محاولات السيطرة بنفس راضية وعقل بصير يعيّ محدودية كوننا بشرًا ولاجدوى حمل العالم على كتفينا، ربما يكون هذا هو الجانب الآخر من مفهوم الرزق وآلية الأخذ بالأسباب.